وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " لكل داء دواء" ، تقوية لنفس
المريض والطبيب ، وحث على طلب ذلك الدواء والتفتيش عليه ،
فإن المريض إذا استشعرت نفسه أن لدائه دواء يزيله ، تعلق قلبه
بروح الرجاء ، وبردت عنده حرارة اليأس ، وانفتح له باب الرجاء ،
ومتى قويت نفسه انبعثت حرارته الغريزية ، وكان ذلك سببها
لقوة الأرواح الحيوانية والنفسانية والطبيعية ، ومتى قويت هذه
الأرواح ، قويت القوى التي هي حاملة لها ، فقهرت المرض ودفعته .
وكذلك الطبيب إذا علم أن لهذا الداء دواء أمكنه طلبه والتفتيش عليه .
وأمراض الأبدان على وزان أمراض القلوب ، وما جعل الله للقلب
مرضاً إلا جعل له شفاء بضده ، فإن علمه صاحب الداء واستعمله ،
وصادف داء قلبه ، أبرأه بإذن الله تعالى .
في هديه صلى الله عليه وسلم في الإحتماء من التخم ، والزيادة في
الأكل على قدر الحاجة ، والقانون الذي ينبغي مراعاته في الأكل والشرب
في المسند وغيره : عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال : " ما ملأ آدمي
وعاءً شراً من بطن ، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان لا بد فاعلاً ،
فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه " .
الأمراض نوعان : أمراض مادية تكون عن زيادة مادة أفرطت في
البدن حتى أضرت بأفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ،
وسببها إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر
الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع ، البطيئة الهضم ،
والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، فإذا ملأ الآدمي بطنه
من هذه الأغذية ، واعتاد ذلك ، أورثته أمراضاً متنوعة ، منها بطيء الزوال
وسريعه ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلاً في
كميته وكيفيته، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .
ومراتب الغذاء ثلاثة : أحدها : مرتبة الحاجة .
والثانية : مرتبة الكفاية .
والثالثة : مرتبة الفضلة . فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه يكفيه
لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضف معها ، فإن تجاوزها ،
فليأكل في ثلث بطنه ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثالث للنفس ، وهذا
من أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ضاق عن الشراب ،
فإذا ورد عليه الشراب ضاق عن النفس ، وعرض له الكرب والتعب بحمله
بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، هذا إلى ما يلزم ذلك من فساد القلب ، وكسل
الجوارح عن الطاعات ، وتحركها في الشهوات التي يستلزمها الشبع .
فامتلاء البطن من الطعام مضر للقلب والبدن .
هذا إذا كان دائماً أو أكثرياً . وأما إذا كان في الأحيان ، فلا بأس به ،
فقد شرب أبو هريرة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم من اللبن ، حتى
قال : والذي بعثك بالحق ، لا أجد له مسلكاً . وأكل الصحابة
بحضرته مراراً حتى شبعوا .
والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإن أخصبه ، وإنما يقوى البدن
بحسب ما يقبل من الغذاء ، لا بحسب كثرته .
ولما كان في الإنسان جزء أرضي ، وجزء هوائي ، وجزء مائي ، قسم النبي
صلى الله عليه وسلم طعامه وشرابه ونفسه على الأجزاء الثلاثة .
فإن قيل : فأين حظ الجزء الناري ؟
قيل : هذه مسألة تكلم فيها الأطباء ، وقالوا : إن في البدن جزءاً
نارياً بالفعل ، وهو أحد أركانه واسطقساته .
ونازعهم في ذلك آخرون من العقلاء من الأطباء وغيرهم ، وقالوا : ليس
في البدن جزء ناري بالفعل ، واستدلوا بوجوه :
أحدها : أن ذلك الجزء الناري إما أن يدعى أنه نزل عن الأثير ،
واختلط بهذه الأجزاء المائية والأرضية ، أو يقال : إنه تولد فيها
وتكون ، والأول مستبعد لوجهين ، أحدهما : أن النار بالطبع صاعدة ،
فلو نزلت ، لكانت بقاسر من مركزها إلى هذا العالم . الثاني : أن تلك
الأجزاء النارية لا بد في نزولها أن تعبر على كرة الزمهرير التي هي في
غاية البرد ، ونحن نشاهد في هذا العالم أن النار العظيمة تنطفئ بالماء
القليل ، فتلك الأجزاء الصغيرة عند مرورها بكرة الزمهرير التي هي
في غاية البرد ، ونهاية العظم أولى بالانطفاء .
وأما الثاني : - وهو أن يقال : إنها تكونت ها هنا - فهو أبعد وأبعد ،
لأن الجسم الذي صار ناراً بعد أن لم يكن كذلك ، قد كان قبل صيرورته
إما أرضاً ، وإما ماء ، وإما هواء لانحصار الأركان في هذه الأربعة ،
وهذا الذي قد صار ناراً أولاً ، كان مختلطاً بأحد هذه الأجسام ،
ومتصلاً بها ، والجسم الذي لا يكون ناراً إذا اختلط بأجسام عظيمة
ليست بنار ولا واحد منها ، لا يكون مستعداً لأن ينقلب ناراً لأنه في
نفسه ليس بنار ، والأجسام المختلطة باردة ، فكيف يكون مستعداً لانقلابه ناراً ؟
فإن قلتم : لم لا تكون هناك أجزاء نارية تقلب هذه الأجسام ،
وتجعلها ناراً بسبب مخالطتها إياها ؟
قلنا : الكلام في حصول تلك الأجزاء النارية كالكلام في الأول ،
فإن قلتم : إنا نرى من رش الماء على النورة المطفأة تنفصل منها نار ،
وإذا وقع شعاع الشمس على البلورة ، ظهرت النار منها ، وإذا ضربنا
الحجر على الحديد ، ظهرت النار ، وكل هذه النارية حدثت عند الإختلاط ،
وذلك يبطل ما قررتموه في القسم الأول أيضاً .
قال المنكرون : نحن لا ننكر أن تكون المصاكة الشديدة محدثة للنار ،
كما في ضرب الحجارة على الحديد ، أو تكون قوة تسخين الشمس
محدثة للنار ، كما في البلورة ، لكنا نستبعد ذلك جداً في أجرام
النبات والحيوان ، إذ ليس في أجرامها من الإصطكاك ما يوجب
حدوث النار ، ولا فيها من الصفاء والصقال ما يبلغ إلى حد البلورة ،
كيف وشعاع الشمس يقع على ظاهرها ، فلا تتولد النار
البتة ، فالشعاع الذي يصل إلى باطنها كيف يولد النار ؟
الوجه الثاني : في أصل المسألة : أن الأطباء مجمعون على أن
الشراب العتيق في غاية السخونة بالطبع ، فلو كانت تلك السخونة
بسبب الأجزاء النارية ، لكانت محالاً إذ تلك الأجزاء النارية مع
حقارتها كيف يعقل بقاؤها في الأجزاء المائية الغالبة دهراً طويلاً ،
بحيث لا تنطفئ مع أنا نرى النار العظيمة تطفأ بالماء القليل .