إذا عرف هذا ، فهذا الذي وصف له النبي صلى الله عليه وسلم العسل ،
كان استطلاق بطنه عن تخمة أصابته عن امتلاء ، فأمره بشرب
العسل لدفع الفضول المجتمعة في نواحي المعدة والأمعاء ، فإن
العسل فيه جلاء ، ودفع للفضول ، وكان قد أصاب المعدة أخلاط لزجة ،
تمنع استقرار الغذاء فيها للزوجتها ، فإن المعدة لها خمل كخمل
القطيفة ، فإذا علقت بها الأخلاط اللزجة ، أفسدتها وأفسدت الغذاء
، فدواؤها بما يجلوها من تلك الأخلاط ، والعسل جلاء ، والعسل
من أحسن ما عولج به هذا الداء ، لا سيما إن مزج بالماء الحار .
وفي تكرار سقيه العسل معنى طبي بديع ، وهو أن الدواء يجب
أن يكون له مقدار ، وكمية بحسب حال الداء ، إن قصر عنه ،
لم يزله بالكلية ، وإن جاوزه . أوهى القوى ، فأحدث ضرراً آخر ،
فلما أمره أن يسقيه العسل ، سقاه مقداراً لا يفي بمقاومة الداء ،
ولا يبلغ الغرض ، فلما أخبره ، علم أن الذي سقاه لا يبلغ مقدار
الحاجة ، فلما تكرر ترداده إلى النبي صلى الله عليه وسلم ،
أكد عليه المعاودة ليصل إلى المقدار المقاوم للداء ، فلما
تكررت الشربات بحسب مادة الداء ، برأ ، بإذن الله ، واعتبار
مقادير الأدوية ، وكيفياتها ، ومقدار قوة
المرض مرض من أكبر قواعد الطب .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله وكذب بطن أخيك
" ، إشارة إلى تحقيق نفع هذا الدواء ، وأن بقاء الداء ليس
لقصور الدواء في نفسه ، ولكن لكذب البطن ، و كثرة
المادة الفاسدة فيه ، فأمره بتكرار الدواء لكثرة المادة .
وليس طبه صلى الله عليه وسلم كطب الأطباء ، فإن طب النبي
صلى الله عليه وسلم متيقن قطعي إلهي ، صادر عن الوحي ،
ومشكاة النبوة ، وكمال العقل . وطب غيره ، أكثره حدس وظنون ،
وتجارب ، ولا ينكر عدم انتفاع كثير من المرضى بطب النبوة ،
فإنه إنما ينتفع به من تلقاه بالقبول ، واعتقاد الشفاء به ، وكمال
التلقي له بالإيمان والإذعان ، فهذا القرآن الذي هو شفاء لما في
الصدور - إن لم يتلق هذا التلقي - لم يحصل به شفاء الصدور
من أدوائها ، بل لا يزيد المنافقين إلا
رجساً إلى رجسهم ، ومرضاً
إلى مرضهم ، وأين يقع طب الأبدان منه ، فطب النبوة لا يناسب
إلا الأبدان الطبية ، كما أن شفاء القرآن لا يناسب إلا الأرواح
الطبية والقلوب الحية ، فإعراض الناس عن طب النبوة كإعراضهم
عن طب الإستشفاء بالقرآن الذي هو الشفاء النافع ، وليس ذلك لقصور
فى الدواء ، ولكن لخبث الطبيعة ، وفساد المحل ،
وعدم قبوله ، والله الموفق .
***
في هديه في داء الإستسقاء وعلاجه
في الصحيحين : من حديث أنس بن مالك ، قال : قدم رهط من
عرينة وعكل على النبي صلى الله عليه وسلم ، فاجتووا المدينة ،
فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : " لو خرجتم إلى
إبل الصدقة فشربتم من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فلما صحوا ،
عمدوا إلى الرعاة فقتلوهم ، واستاقوا الإبل ، وحاربو الله ورسوله ،
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فأخذوا ، فقطع
أيديهم ، وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وألقاهم في الشمس حتى ماتوا " .
والدليل على أن هذا المرض كان الإستسقاء ، ما رواه مسلم في
صحيحه في هذا الحديث أنهم قالوا : إنا اجتوينا المدينة ، فعظمت
بطوننا ، وارتهشت أعضاؤنا ، وذكر تمام الحديث . . .